-A +A
وليد احمد فتيحي
بدأت الأسبوع الماضي مقالي بقولي "انه عندما خلق الله الإنسان فطره على أن يكون مخلوقاً يعتبر ويتعظ ويتأثر بما يرى بالعين واقعاً حياً أمامه أكثر مما يسمع ويقرأ.. وجرت هذه السُّنة والفطرة على أنبيائه فسأل بعضهم ربه ما يجسِّد هذه الفطرة مما أخبرنا به وقصه علينا القرآن الكريم".
وقدمت أمثلة من أنبياء طلبوا مثل ذلك؛ فسيدنا موسى عليه السلام "قال رب أرني أنظر إليك"، وسيدنا إبراهيم "قال ربي أرني كيف تحيي الموتى قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى... ولكن ليطمئن قلبي".

وكذلك الحال في تجسيد هذه الفطرة على لسان أقوام طالبوا أنبياءهم بآيات مرئية يشاهدونها بأم أعينهم قبل أن يؤمنوا.
وبذلك اقتضت حكمة الله أن توافق وسيلة تبليغ الرسالات هذه الفطرة، فبعث الله الأنبياء والرسل من البشر يشتركون مع من يدعون إلى الله بخصائصهم وصفاتهم البشرية ليكونوا بذلك القدوة والمثل الناطق المتحرك العامل.
وجاء خاتم الأنبياء المرسلين سيد الخلق اجمعين سيدنا محمد ليقدم الصورة الكاملة للبشرية جمعاء إلى قيام الساعة، فكان بمثابة المرجع للإنسانية والمعجم المترجم للمعاني العالية السماوية بلغة الأرض الترابية، فكان صلى الله عليه وسلم قرآناً يدب على الأرض، وجاء القرآن يزكيه "وإنك لعلى خلق عظيم"، كما قالت أم المؤمنين عائشة: "كان خلقه القرآن".
وحتى لا ينقطع هذا النوع من الدعوة الفعَّالة المنسجمة والمتوافقة مع الفطرة التي خلق الله بها الإنسان استمرت المسيرة فحملها أصحاب رسول الله من بعده والتابعون، فقال رسول الله فيهم "اصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"، ومن بعدهم أمة محمد.. أمة الخير إلى قيام الساعة، وبذلك أصبحت أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي الوريث لهذا الإرث العظيم، وأخطر ما يمكن أن تبتلى به الإنسانية هو غياب القدوات فبغيابها يصبح الشرع والدين أشبه ما يكونان بأسطورة تقرأ لا رصيد لها على أرض الواقع.
"إن هذا الشرع لا يحيا إلا أن يختلط بلحم ودم ويمشي على الأرض"، ومن الخطر بمكان ان ينتشر الاعتقاد الخاطئ والمقولة المغرضة اننا نفتقد القدوات أو نعدمها، لأن مثل هذه المقولة تبعث في النفوس مفهوماً خاطئاً ألا وهو أن الشرع "الذي ما جاء إلا ليتمم مكارم الأخلاق" غير قابل للتطبيق، وبذلك تجد الإنسانية فسحة وذريعة أن لا تسعى للارتقاء وان لا تنشد صور الكمال، ولكننا إذ أمعنا النظر في الأمر فاننا سنجد أن الذي ضاع منا ليس هو القدوات وانما تعريفنا للقدوات، فتعريفنا الخاطئ للقدوة هو الذي أودى بنا أن نغفل عن رؤيتها في بعضنا البعض.
أما التعريف الخاطئ للقدوة هو أن يجمع الشخص صاحب القدوة كل الخصال في صورها الكاملة، وبهذا التعريف الخاطئ نغفل عن تسليط الضوء على خصلة في شخص ما يكاد يصل فيها إلى صورة الكمال بمجرد تقصيره في ناحية أخرى.
وكما ذكرنا أن الكمال في جميع النواحي لا يأتي إلا لأنبياء الله، وصورتهم الكاملة خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولو صح لغيرهم من البشر لكان مع صحابة رسول الله.
وسقنا كمثال سيدنا خالد بن الوليد فقد كان قدوة في الجهاد وهو سيف الله المسلول، ولكنه القائل "منعني الجهاد كثيراً من القراءة" وكان يخطئ في قصار السور.. فلم يكن قدوة في هذه الجزئية.
وهذا سيدنا حاطب بن ابي بلتعة، ممن شهدوا بدراً وكان رسول النبي إلى المقوقس صاحب مصر، وكان من أمهر الرماة الموصوفين، وكان له موقف عظيم في معركة أحد، ومما روي عنه "انه أطلع على النبي صلى الله عليه وسلم بأحد، قال: وفي يد على الترس، والنبي صلى الله عليه وسلم يغسل وجهه من الماء، فقال حاطب: من فعل هذا؟ قال: عتبة بن أبي وقاص، هشم وجهي، ودق رباعيتي بحجر! فقلت: إني سمعت صائحاً على الجبل: قُتل محمد! فأتيت إليك. وكأن قد ذهبت روحي. فأين توجه عتبة؟ فأشار إلي حيث توجه. فمضيت حتى ظفرت به، فضربته بالسيف، فطرحتُ رأسه! فنزلت فأخذت رأسه وسَلبه وفرسه، وجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلَّم ذلك إليَّ، ودعا لي. فقال: رضي الله عنك!.
فكان بذلك قدوة في كل ما ذكر أعلاه، ولكنه لم يكن قدوة في عمله الذي فعل عندما كتب إلى كفَّار قريش كتاباً يعلمهم بقدوم المسلمين عليهم في فتح مكة، فقال عمر ائذن يا رسول الله في قتله، من منطلق انها خيانة عسكرية، فقال: لا انه قد شهد بدراً وانك لا تدري لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني غافر لكم.
وهذا حسان بن ثابت المؤيد بروح القدس الذي قال فيه رسول الله "ان الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح عن رسول الله"، وهو الذي قال فيه رسول الله عن عائشة "لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق"، وقد فعل فكان قدوة في تجنيد الكلمة والشعر للدفاع عن الحق، ولكنه لم يكن قدوة لما خلَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه يوم أُحد، خلفهُنَّ في فارع، وفيهن صفيَّة بنت عبد المطلب، وخلَّف فيهن حسان، فأقبل رجل من المشركين ليدخُل عليهن. فقالت صفية لحسان: عليك الرجل. فجَبُن، وأبى عليها. فتناولت السيف، فضربت به المشرك حتى قتلته. فأُخبر بذلك، فضُرب لها بسهم، لو كان ذلك فيَّ لكنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: فقطعتُ رأسه، وقلت لحسان: قُم، فاطرحه على اليهود، وهم تحت الحصن. قال: والله ما ذاك فيَّ. فأخذت رأسه، فرميت به عليهم. فقالوا: قد علمنا والله إن هذا لم يكن ليترك أهله خُلوفاً، ليس معهم أحد. فتفرقوا.
إن علينا اعادة قراءة السيرة وفهمها، وإعادة تعريف القدوة حتى نستطيع أن نراها في واقعنا، هناك بحق قدوات حية في أيامنا هذه تكاد تصل في بعض الصفات والنواحي إلى صورة الكمال وان ابتعدت عنها في نواح أخرى، ولو سلطنا الأضواء على نواحي القدوة في كل واحد منا سنجد ان الأمة ستعمل عمل النبي الواحد، كل واحد منا لا يَرقى أن يصل إلى الصورة الكاملة للنبي، ولكن مجموع القدوات اذا اجتمعت في أمة واحدة أو مجتمع واحد جسدت الصورة الكاملة التي جاء الأنبياء ليحيوها على الأرض.. وبذلك يصبح عمل مجموعة من الناس أو مجتمع أو أمة هو عمل النبي الواحد.
* طبيب استشاري، ورئيس مجلس
إدارة المركز الطبي الدولي
فاكس: 6509659
okazreaders@imc.med.sa